قرأتُ، مرةً، أنَّ عدد المسجلين على القائمة الاميركية "السوداء" يبلغ نحو مليون شخص. ولكنَّ ذلك قبل الحادي عشر من سبتمبر. بعده لا أحد يعلم كم بلغ العدد! قد يخطر في بال من يسمع بوجود هذه القائمة أن الأمر يتعلق بأسماء المتورطين بـ "الارهاب"، مشاركة ً وتمويلاً وتمجيداً، أو بارونات المخدرات الذين يدمِّرون شباب العالم، أو تجار السلاح الذين يسلّحون نزاعات الشعوب بأدوات القتل، ولكن كلا. فقد كان عليها عدد من أبرز كتاب وفنانين العالم ممن ساندوا نضال الشعوب ضد الاستعمار، أو حقِّها في تقرير مصيرها، أو حتى نضالها ضد دكتاتوريات محليّة، مثل بينوشيه في تشيلي، وغير ه في اميركا اللاتينية واسيا وإفريقيا، من هؤلاء يكفي أن نذكر: ماركيز، غراهام غرين، دوريس لسنغ، نيرودا، محمود درويش، داريو فو. . . ومانديلا. . .وعدد آخر كبير من مثقفي العالم اليساريين ومن بينهم المفكر اليوناني يانيس ميليوس الذي دعته جامعة نيويورك للمشاركة في مناظرة فكرية فأعاده الأمن الاميركي من مطار جون كندي بعد تحقيق مهين وطويل.
أما أظرف "إبداعات" الهستيريا الأمنية الاميركية فتتمثل في توقيف الكاتبة الاميركية ديانا أبو جابر والتحقيق معها ساعات طويلة رغم كونها كاتبة معروفة. وقد قرأت حكايتها، بقلمها، عن تجربة "دخول" أميركا في مقال نشرته بعد "السماح" لها بالدخول الى بلدها!
كاتب هذه السطور يحمل الجنسيتين الاردنية والبريطانية (وهذا حق مكفول في القانونين الاردني والبريطاني وليس "فهلوة") ويعمل في الصحافة منذ أكثر من ثلاثة عقود، بل لم يكن له مهنة ذات يوم غيرها، وله عشرة دواوين شعرية وأربعة كتب في أدب الرحلة (ما يعني السفر والذهاب الى بلدان عديدة) ورواية نشرت ترجمتها الانكليزية قبل أشهر عند دار بلومزبري البريطانية، وينتظر نشرها في اميركا العام القادم.. وله كتيب شعري جميل الشكل والإخراج بعنوان "بترا" صدر قبل أيام عن دار اميركية مميزة هي "تافيرن بوكس" من ترجمة الشاعر والمترجم الاميركي فادي جودة. ولا نشاط له، قطّ، غير الكتابة. ومع ذلك وجد نفسه ضمن قائمة الممنوعين من دخول اميركا. هكذا أصبحتُ، فجأةً، على "القائمة السوداء" من دون أن أعلم، أو لعلني كنت موجوداً عليها منذ زمن البيارق الحمراء، التي أفِلتْ، من دون أن أدري!
الحكاية هي، باختصار، التالية:
كنت في طريقي الى مطار هيثرو أقرأ ديوان فدريكو غارسيا لوركا "شاعر في نيويورك" وأفكِّر في العنوان نفسه. ما الذي قصده لوركا؟ هل العنوان ذو طابع خبري؟ ولكن أي خبر في أن يكون هناك شاعر في نيويورك أو أي مدينة أخرى؟ هذا لا يشكل خبرا، كما يمكن أن نلمسه من عنوان ديوان لوركا. ولكن نيويورك ليست أي مدينة. كما أن لوركا ليس أي شاعر. فشاعرٌ معجمه الأثير: الزيتون، البرتقال، الكرمة، الطرق الترابية، أوراق الليمون، السواقي، القمر الذي يتدلى من سماء عارية بخيط من حرير، لا يمكن أن يكون وجوده في نيويورك، التي لا تصلح للشعر (بحسب ديوانه الشهير) عادياً. إنه خبر إذن: في نيويورك شاعر!! على غرار عنوان فيلم عربي كان شهيراً في وقته: بدوية في باريس! التناقض هنا قائم، من وجهة صناع الفيلم، كما أن التناقض قائم، من وجهة نظر لوركا، بين الشاعر ونيويورك. كأنَّ الشعر ونيويورك لا يلتقيان، مثلما لا تلتقي البدواة وباريس!
وصلت الى الصالة الخامسة في مطار هيثرو المخخصصة لشركة الطيران البريطانية، التي يفترض أن تقلني بعد ساعتين ونصف الى الجهة الأخرى من الاطلسي: نيويورك، وبدأتُ اجراءت السفر. ثم دخلَ على خطِّ هذه الاجراءات (ما أن وصل اسمي الى ممثلي "الهوم لاند"، المقيمين في المطارات البريطانية) رجل أمن اميركي راح يتحدث بالهاتف الى موظف الخطوط البريطانية الذي يواصل تنفيذ اجراءات السفر المعتادة. لم اكن أعرف مع من يتكلم الموظف البريطاني الا عندما سمعت اسمي يتكرر اكثر من مرة، ثم قام الموظف بتمرير الهاتف الي وعلى وجهة علامة استغراب. قال: رجال "الهوم لاند" يريدون التحدث اليك. وهكذا بدأت أغرب "محاورة" بالنسبة لي: اسمك، اسم ابيك، أمك، والد أبيك، والد أمك، جدك، والد جدك، طولك، وزنك، لون عينيك، لون شعركَ.. عند هذه النقطة قلت لرجل الهوم لاند: إنه يميل الى البياض الآن! فقال: وكيف كان لونه من قبل؟ بني؟ فقلت: كلا، أسود. ثم تواصلت "المحاورة": ماذا ستفعل في نيويورك؟ من دعاك؟ (أجبت جامعة نيويورك)، من في جامعة نيويورك؟ سنان انطون. ماذا يعمل سنان انطوان؟ استاذ في الجامعة.. وهو شاعر وروائي أيضاً. كيف يُكَتب اسمه بالانكليزية؟ هل لك أقارب، معارف، أصدقاء في اميركا؟ أين تعمل الآن؟ أين كنت تعمل من قبل؟ ما هي عناوين تلك المؤسسات؟ الطرة؟ أليست هذه المدينة التي ولدت فيها؟ أين تقع الطرة؟ (قلت في نفسي لو كنت تعرف الطرة لما سألتني). أين تسكن؟ هل هو بيت خاص بك؟ هانزلو؟ أين تقع هانزلو؟ وهكذا لمدة تقارب الساعتين وأنا واقف على قدميَّ أمام موظف الخطوط البريطانية الذي أضطر الى أن يصرف الذين يقفون خلفي في الطابور و"يتفرغ" تماما لي.
علم رجل "الهوم لاند" الذي يحقق معي على الهاتف من مكان ما داخل المطار، أنني شاعر وكاتب وعندي دعوة من جامعة نيويورك لقراءة شعرية في برنامج ثقافي يحتفي بشعر العالم. لكنَّ ذلك لم يكن مهماً بالنسبة له. علم أني صحافي ولم أمارس في حياتي مهنة غير هذه المهنة ولكنَّ ذلك لم يكن مهما بالنسبة له. علم أني أقارب الستين من العمر ولكنَّ ذلك لم يكن مهما بالنسبة له. وعلم، بالطبع، أني أحمل الجنسية البريطانية التي لا ينالها، كما اتصوَّر، شخص "مشبوه" ولكن ذلك لم يكن مهما بالنسبة له وهو الذي يمارس "سيادته" الأميركية على الأراضي البريطانية.
ومع علمه هذا قال لي: آسف لا تستطيع أن تستقل هذه الطائرة المغادرة (كانت قد غادرت!) إلى نيويورك.
-ما السبب؟
- لا أستطيع أن أفصح عنه.
-أليس لي الحق في معرفته؟
-كلا.
-هكذا؟
-هكذا!
***
وهكذا لن أستطيع أن أكمل ما بدأت التفكير به حول لوركا ونيويورك لأنني لن أستطيع أن أذهب الى نيويورك التي يذهب اليها لصوص وتجار سلاح ومخدرات ومسؤولون حكوميون فاسدون. فكَّرتُ وأنا أستقل قطار الأنفاق عائداً الى بيتي: لو أن لوركا عاش ما بعد المكارثية (التي يبدو أنها لم تنته تماما في الولايات المتحدة) هل يستطيع أن يدخل أميركا مرة ثانية؟ جوابي الافتراضي: كان سيكون في مقدمة القائمة السوداء لسببين: الأول أنه كان جمهورياً معاديا للفاشية الكتائبية بقيادة فرانكو، والثاني أنه صاحب الههجاء الخالد، ليس ضد نيويورك كمدينة وبشر، ولكن كعلاقات رأسمالية متوحّشة تبدعُ في تحويل العرق والدم والأنين البشري الى شلال من الدولارات.